تاريخثقافة وادب وفنونسلايد 1كتب ودراسات
تخوين وتطليق وتجويع.. ضغوط واجهها أبرز مجدد ديني في مصر
بسبب الكتاب الذي فند أباطيل فكرة الخلافة، وكشف عورات المتشددين دينيا، وسرد طرق استخدامهم للدين لتحقيق أهداف دنيوية وسياسية، مورست ضغوط على الشيخ علي عبد الرازق للتراجع عن الكتاب، والتخلي عن أفكار، وصلت لحد تخوينه واتهامه بالدعوة للبلشفية والشيوعية، وتحويل مصر لدولة لا دينية، وانتهت بعزل الرجل وفصله ومحاربته حتى اختار الرحيل والبقاء في منفى اختياري لمدة 20 عاما.
اتخذ الأزهر موقفا متشددا من الشيخ الراحل، وعقدت هيئة كبار العلماء اجتماعا طارئا في 12 أغسطس من العام 1925 لمحاكمة الرجل الذي دخل الجلسة وحياهم بتحية الإسلام، ولكن أعضاء الهيئة رفضوا رد التحية، ثم حاكموه موجهين له عدة اتهامات منها، أن الكتاب يحوي أمورا مخالفة للدين والسنة النبوية وإجماع الأمة، ومنها أيضا أن الكاتب جعل الشريعة الإسلامية روحية محضة، ليس لها علاقة بأمور الدنيا والحكم، واعتبار مهمة النبي أنها كانت بلاغا للشريعة مجردة عن الحكم والتنفيذ.
واتهمت الهيئة الشيخ علي عبد الرازق بإنكار إجماع الصحابة، وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية، واعتبار حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده أنها كانت سياسية لا دينية.
وحاكمت الهيئة الشيخ علي عبد الرازق وفقاً للقانون رقم 10 لسنة 1911 التي تنص على أنه إذا وقع من أحد العلماء أيا كانت وظيفته أو مهنته، ما لا يناسب وصف العالمية يحكم عليه شيخ الجامع الأزهر بإجماع 19عالما معه من هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرة العلماء، ويترتب على هذا الحكم محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية.
وحزن الشيخ وأحبط بسبب ما حدث له من الأزهر، حتى إنه في مقابلة بينه وبين الكاتب الصحافي الكبير محمود أمين العالم، قال إن الهيئة اجتمعت عليه، وحاربته وحاولت تجويعه.
وقال الكاتب الكبير في مقال له نشره بصحيفة الأهالي في العام 1985 إن هيئة كبار العلماء كادوا يطلقون الشيخ علي عبد الرازق من زوجته، وإن الشيخ قال له ذلك، وأضاف أنه لحسن الحظ لم يكن متزوجا وقتها فضاعت عليهم الفرصة.
وقال محمود أمين العالم إنه في يونيو من العام 1966 وقبل وفاة علي عبد الرازق بشهور، ذهب إليه يستأذنه في إعادة طبع كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، مضيفاً أن الشيخ كان سعيدا وكان حريصا على أن يؤكد له أنه ما تخلى ولن يتخلى عن كتابه أبداً.
وذكر أن الشيخ علي عبد الرازق كان متأثرا بما جرى له بسبب الكتاب، وأن الحديث عن إعادة طبعه آثار في نفسه الجرح القديم، حيث قال الشيخ: لم أعد أحتمل مغامرة جديدة، اطبعوا الكتاب على مسؤوليتكم، ولا تطلبوا إذنا مني بغير ضمان أكيد أطمئن إليه، اطبعوا الكتاب دون استئذان لكن لا أريد أن أتحمل أي مسؤولية في سبيل ذلك.
وأضاف محمود أمين العالم أنه قال للشيخ إن كتابك ياسيدي وهو كتاب يدعو للفخر والاعتزاز فهل تتخلي عنه؟ وأجاب الشيخ : لا لست أتخلى عنه وما تخليت عنه أبداً، على أني لست مستعداً أن ألاقي بسببه أي أذى جديد، ما عدت أستطيع ذلك كفاني ما لاقيت.
الضغوط التي تعرض لها الشيخ علي عبد الرازق كانت كفيلة بتحطيم معنوياته وتدميره نفسيا، لكنها لم تجبره على التراجع والتخلي عن الكتاب وعما فيه من أفكار، وهو ما أكدته ابنته الدكتورة سعاد علي عبد الرازق، حيث ذكرت في حديث لصحيفة “الوفد” في عام 1989 أن والدها لم يتراجع، وكان يملك الشجاعة التي تجعله يواجه الناس بتراجعه ويعلن موقفه الجديد على الملأ، لكن هذا لم يحدث.
خلال وجوده في فرنسا وفي المنفي الاختياري الذي اختاره لنفسه، كي يبتعد عن الضغوط التي جرت له في مصر، كان الشيخ علي عبد الرازق متواصلا مع أصدقائه الذين دافعوا عنه وعن كتابه وعن أفكاره، وعلى رأسهم عميد الأدب العربي طه حسين، وكان يرسل مقالات لنشرها في الصحف المصرية، بل كان يتبادل الرسائل مع المثقفين والمفكرين والنخبة.
في رسالة إنسانية ومؤثرة منه لأحد أصدقائه عبر الشيخ علي عبد الرازق عن شجونه وأوجاعه في الغربة والبقاء بعيداً عن مصر بسبب الحملة التي شنت ضده، وعزله من وظيفته، ومنعه من تولي أي مناصب جديدة.
وقال الشيخ لصديقه رداً على رسالته: لقد آنست كثيراً بجوابك وسرني، وقد وددت لو أكون قريباً منك، لأحاول أن أدفع عنك ذلك السأم الذي تلقى، فإني لأكره لك أن تسأم، وإن كنت أسأم أحياناً، ولعله قد آن الوقت الذي كنت تقدر فيه أن تحضر إلى باريس، وسنتقابل إن شاء الله.
صحتي جيدة وحياتي هنا في الجملة رضية، لولا أنني لم أتقدم في دراسة الفرنساوي مطلقا، ولا أكاد أشتغل فيه، ولا أشتغل في شيء غيره، لا أتفسح ولا ألعب، فأنا المشغول الخلي، مشغول حتى لا أستطيع أن أكتب جوابا، خليّ لا أعمل شيئاً، حتى لا أفكر، أشبه شيء بحياة العاشقين، ولكني لست عاشقاً، وما أنا ممن ينزل العشق قلبه.
وختم الشيخ رسالته بأبيات من شعر أبي الفارض يقول فيها:
نصحتك علما بالهوى والذي أرى
مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو
تحيتي واحترامي وشوقي لك، ولأنجالك الكرام.